فصل: بَابُ الصَّدَقَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الرُّقْبَى:

قَالَ: (رَجُلٌ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَقَالَ: دَارِي هَذِهِ حَبِيسٌ: لَمْ تَكُنْ حَبِيسًا، وَكَانَ ذَلِكَ مِيرَاثًا)؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ حَبِيسٌ أَيْ: مَحْبُوسٌ، فَعِيل بِمَعْنَى مَفْعُول، كَالْقَتِيلِ بِمَعْنَى الْمَقْتُولِ، وَمَعْنَاهُ: مَحْبُوسٌ عَنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ، وَسِهَامُ الْوَرَثَةِ فِي مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِهِ بِقَوْلِهِ.
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ شُرَيْحٍ: لَا حَبِيسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ- تَعَالَى- وَجَاءَ مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِبَيْعِ الْحَبِيسِ.
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: دَارِي هَذِهِ حَبِيسٌ عَلَى عَقِبِي بَعْدَ مَوْتِي: فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَحْبُوسٌ عَلَى مُلْكِهِمْ لَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ بِالْإِزَالَةِ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْمَالِكُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ؛ فَكَانَ بَاطِلًا.
قَالَ: (وَلَوْ قَالَ دَارِي هَذِهِ لَك رُقْبَى: فَهُوَ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: هِيَ هِبَةٌ صَحِيحَةٌ إذَا قَبَضَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَك حَبِيسٌ)، فَأَبُو يُوسُفَ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجَازَ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى» وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ قَوْلَهُ: دَارِي لَك تَمْلِيكٌ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ: حَبِيسٌ أَوْ رُقْبَى بَاطِلٌ.
فَكَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ.
يُوَضِّحُهُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: دَارِي لَك رُقْبَى، مَلَّكْتُكَ دَارِي هَذِهِ، فَأَرْقُبُ مَوْتَك؛ لِتَعُودَ إلَيَّ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعُمْرَى فِي مَعْنَى الِانْتِظَارِ وَالتَّعْلِيق بِالْعَوْدِ إلَيْهِ دُونَ التَّمْلِيكِ، فَيَبْقَى التَّمْلِيكُ فِي الْحَالِ صَحِيحًا.
وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ: حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ «أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجَازَ الْعُمْرَى، وَرَدَّ الرُّقْبَى»، وَالْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا، فَنَقُولُ: الرُّقْبَى قَدْ تَكُونُ مِنْ الْإِرْقَابِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ التَّرَقُّبِ، حَيْثُ قَالَ: أَجَازَ الرُّقْبَى، يَعْنِي: إذَا كَانَ مِنْ الْإِرْقَابِ، بِأَنْ يَقُولَ: رَقَبَةُ دَارِي لَك.
وَحَيْثُ قَالَ: رَدُّ الرُّقْبَى إذَا كَانَ مِنْ التَّرَقُّبِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أُرَاقِبُ مَوْتَك، فَرَاقِب مَوْتِي، فَإِنْ مِتّ فَهِيَ لَك، وَإِنْ مِتُّ فَهِيَ لِي؛ فَيَكُونُ هَذَا تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ، وَهُوَ مَوْتُ الْمُمَلَّكِ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، ثُمَّ لَمَّا احْتَمَلَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا، وَالْمِلْك لِذِي الْيَدِ فِيهَا يَقِينًا، فَلَا يُزِيلُهُ بِالشَّكِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ قَوْلُهُ: دَارِي لَك تَمْلِيكًا، إذَا لَمْ يُفَسِّرْ هَذِهِ الْإِضَافَة بِشَيْءٍ.
أَمَّا إذَا فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: رُقْبَى أَوْ حَبِيسٌ، يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: دَارِي لَكَ سُكْنَى تَكُونُ عَارِيَّةً؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُبْهَمَ إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرٌ، فَالْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ.
قَالَ: (رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلَيْنِ: عَبْدِي هَذَا لِأَطْوَلِكُمَا حَيَاةً، أَوْ حَبِيسٌ عَلَى أَطْوَلِكُمَا حَيَاةً؛ فَهَذَا بَاطِلٌ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ طُولَ الْحَيَاةِ فِيمَا مَضَى، حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا شَابًّا وَالْآخَرُ شَيْخًا لَا يَتَعَيَّنُ الشَّيْخُ بِالتَّمْلِيكِ مِنْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ: طُولُ الْحَيَاةِ فِي الْمُسْتَقْبِلِ.
مَعْنَاهُ: لِلَّذِي يَبْقَى مِنْكُمَا بَعْدَ مَوْتِ الْآخَرِ، فَهُوَ تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ، وَهُوَ مَعْنَى الرُّقْبَى، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَأْمُرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُرَاقِبَ مَوْتَ صَاحِبِهِ؛ لِتَكُونَ الدَّارُ لَهُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْهِبَةِ:

قَالَ: (وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الْهِبَةِ وَمُعَايَنَةِ الْقَبْضِ: جَازَتْ الْهِبَةُ)؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَالْهِبَةُ مَعَ الْقَبْضِ سَبَبُ مِلْكٍ تَامٍّ، وَإِنْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْوَاهِبِ بِالْقَبْضِ، وَهُوَ يَجْحَدُهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: الشَّهَادَةُ جَائِرَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَالصَّدَقَةُ وَالرَّهْنُ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ: إنَّ تَمَامَ هَذِهِ الْعُقُودِ بِقَبْضٍ يُوجَدُ، وَهُوَ فِعْلٌ لَا قَوْلٌ، وَالْإِقْرَارُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَالْمُخْبِرُ بِهِ إذَا كَانَ كَذِبًا، فَبِالْإِخْبَارِ لَا يَصِيرُ صِدْقًا، وَمَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مِنْ الْقَبْضِ، فَبِإِقْرَارِهِ لَا يَصِيرُ مَوْجُودًا، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِمَا هُوَ سَبَب مِلْكٍ تَامٍّ.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ: أَنَّ الْقَبْضَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْقَتْلِ وَالْغَصْبِ، ثُمَّ فِعْلُ الْقَتْلِ وَالْغَصْبِ كَمَا يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى مُعَايَنَتِهِ، يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْبَيِّنَةِ كَالْمَسْمُوعِ مِنْ الْمُقِرِّ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَلَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ بِأَنَّهُ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ: قُضِيَ بِالْمِلْكِ لَهُ.
فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ إقْرَارُهُ بِالْبَيِّنَةِ.
قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَشَهِدَ عَلَى إقْرَارِ الْوَاهِبِ بِالْهِبَةِ، وَالْقَبْضِ: جَازَتْ الشَّهَادَةُ، كَمَا لَوْ سَمِعَ الْقَاضِي إقْرَارَهُ بِذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْوَاهِبِ فَأَقْرٍ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ وَهَبَهُ مِنْهُ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ أَخَذَ بِإِقْرَارِهِ)؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْعَبْدِ فِي يَدِهِ لَا يُنَافِي مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْهِبَةِ، وَقَبْضُ الْمَوْهُوبِ وَالْمُقِرّ يُعَامَلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ.
وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ- عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ- بَيْنَ مَا إذَا أَقَرَّ بِنَفْسِهِ، وَبَيْنَ مَا إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، وَالشَّهَادَةُ لَا تُوجِبُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا بِسَبَبِ مِلْكٍ تَامٍّ.
قَالَ: (وَإِذَا اسْتَوْدَعَ الرَّجُلُ رَجُلًا وَدِيعَةً، ثُمَّ وَهَبَهَا لَهُ، ثُمَّ جَحَدَهُ فَشَهِدَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ، وَلَمْ يَشْهَدَا بِالْقَبْضِ: فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ، وَقَبْضُهُ مَعْلُومٌ بِالْمُعَايَنَةِ؛ فَيَتِمُّ بِهِ سَبَبُ الْمِلْكِ.
قَالَ: (فَإِنْ جَحَدَ الْوَاهِبُ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْهِبَةِ، وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَبْضِ، وَلَا عَلَى إقْرَارِ الْوَاهِبِ، وَالْهِبَةُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ يَوْمَ تَخَاصَمَ إلَى الْقَاضِي: فَذَلِكَ جَائِزٌ، إذَا كَانَ الْوَاهِبُ حَيًّا)؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَالِ قَابِضٌ، وَقَدْ أَثْبَتَ عَقْدَهُ بِالْبَيِّنَةِ؛ فَيَجْعَلُ قَبْضهُ صَادِرًا عَنْ ذَلِكَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ حُكْمُ الْعَقْدِ، أَوْ مُتَمِّمٌ لِلْعَقْدِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْمِلْكِ، وَالثَّابِتُ مِنْ الْعَقْدِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً، فَكَمَا يُجْعَلُ الْقَبْضُ هُنَاكَ مُتَمِّمًا لِلسَّبَبِ، فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ الْوَاهِبُ حَيًّا، فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَشَهَادَتهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْحَالِ لِلْوَارِثِ، فَلَا يَكُونُ إثْبَاتُ الْعَقْدِ عَلَى الْوَاهِبِ بَعْدَ مَوْتِهِ سَبَبًا لِلْمِلْكِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا دَامَ الْوَاهِبُ حَيًّا، إذَا قَبَضَ الْمَوْهُوبُ بِإِذْنِهِ تَتِمُّ الْهِبَةُ، وَيَمْلِكُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَشْهَدَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ فِي حَيَاةِ الْوَاهِبِ، أَوْ عَلَى إقْرَارِ الْوَاهِبِ بِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ.
قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا، وَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ مِنْ الْوَاهِبِ قَبْلَ الْهِبَةِ وَالْقَبْض: أُبْطِلَتْ الْهِبَةُ)؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ مِنْ الْمَالِكِ، وَالشِّرَاءُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ؛ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّهُ وَهَبَ، وَسَلَّمَ مَا لَا يُمَلَّكُ، قَالَ: (فَإِنْ شَهِدُوا عَلَى الشِّرَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْهِبَةِ: فَهُوَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ لَهُ ثَابِتٌ، بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْهِبَةِ مَا يُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ مُحْتَمَلٌ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ قَبْلَ الْهِبَةِ ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْهِبَةِ لَا يَثْبُتُ، وَبِالِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَّخَ شُهُود الشِّرَاءِ شَهْرًا أَوْ سَنَةً؛ لِأَنَّ الْيَدَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مُعَايَنٌ، وَهُوَ دَلِيلٌ سَبَقَ عَقْدُهُ؛ فَإِنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَالتَّأْرِيخُ فِي حَقِّ الْآخَرِ مَشْهُودٌ بِهِ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْوَاهِبِ، فَأَقَامَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ وَهَبَهُ لَهُ، وَقَبَضَهُ قَبْلَ الشِّرَاءِ، وَأَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ قَبْلَ الْهِبَةِ وَقَبَضَهُ: فَالْعَبْدُ لِصَاحِبِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ مِلْكِهِ أَقْوَى، مِنْ حَيْثُ إنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ عَقْدُ ضَمَانٍ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْبَدَلَيْنِ، وَعِنْدَ الْمُعَاوَضَةِ يَتَرَجَّحُ أَقْوَى السَّبَبَيْنِ فَإِنَّ الضَّعِيفَ مَدْفُوعٌ بِالْقَوِيِّ، وَلَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْمُقَابِلَةِ بِالْقَوِيِّ.
قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ مَتَاعًا، ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا كُنْت اسْتَوْدَعْتُك فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْمَتَاعِ مَعَ الْيَمِينِ)؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ يَدَّعِي تَمَلُّكَ الْعَيْنِ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ، وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ السَّبَبَ بِالْبَيِّنَةِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ الْيَمِينِ، فَإِذَا حَلَفَ أَخَذَ الْمَتَاعَ.
وَإِنْ وَجَدَهُ هَالِكًا: فَإِنْ كَانَ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ مَا ادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ الْهِبَةَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ بِدَعْوَى التَّمَلُّكِ بِالْهِبَةِ يَكُونُ جَاحِدًا لِلْوَدِيعَةِ، وَالْمُودَعُ يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ بِالْجُحُودِ؛ وَلِأَنَّهُ صَارَ مُفَوِّتًا لِلْيَدِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُودَعِ حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ قَابِضٌ لِنَفْسِهِ مُتَمَلِّكٌ فَكَانَ ضَامِنًا الْقِيمَةَ؛ لِهَذَا فَإِنْ قِيلَ: هَذَا أَنْ لَوْ ثَبَتَ الْإِيدَاعُ، (قُلْنَا): لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بِقَبْضِ مَالِ الْغَيْرِ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ مُوجِب لِلضَّمَانِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ تَمْلِيكٌ مِنْ صَاحِبِهِ إيَّاهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.بَابُ الصَّدَقَةِ:

قَالَ: (الصَّدَقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ فِي الْمَشَاعِ، وَغَيْرِ الْمَشَاعِ، وَحَاجَتُهَا إلَى الْقَبْضِ)، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِيهَا إلَّا أَنَّهُ لَا رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ إذَا تَمَّتْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا نَيْلُ الثَّوَابِ- وَقَدْ حَصَلَ- وَإِنَّمَا الرُّجُوعُ عِنْدَ تَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَيَسْتَوِي إنْ تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ، أَوْ فَقِيرٍ فِي أَنَّهُ لَا رُجُوعَ لَهُ فِيهَا.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ: الصَّدَقَةُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْهِبَةُ سَوَاءٌ إنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ الْعِوَضَ- دُونَ الثَّوَابِ-؛ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ جَعَلَ الْهِبَة وَالصَّدَقَة سَوَاء فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّوَابُ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ: الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ سَوَاءٌ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ فَكَذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: ذِكْرهُ لَفْظ الصَّدَقَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْعِوَضَ، وَمُرَاعَاةُ لَفْظِهِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ حَالِ الْمُتَمَلِّكِ.
ثُمَّ التَّصَدُّقُ عَلَى الْغَنِيِّ يَكُونُ قُرْبَةً يَسْتَحِقُّ بِهَا الثَّوَابَ فَقَدْ يَكُونُ غَنِيًّا يَمْلِكُ نِصَابًا، وَلَهُ عِيَالٌ كَثِيرَةٌ، وَالنَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا لِنَيْلِ الثَّوَابِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْحَالِ يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ مِنْ الزَّكَاةِ بِالتَّصَدُّقِ عَلَيْهِ وَلَا رَهْنَ وَلَا رُجُوعَ فِيهِ- بِالِاتِّفَاقِ- فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ: لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ.
قَالَ: (رَجُلٌ تَصَدَّقَ عَلَى رَجُلٍ بِصَدَقَةٍ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، ثُمَّ مَاتَ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَالْمُتَصَدِّق وَارِثُهُ فَوَرَّثَهُ تِلْكَ الصَّدَقَةَ، فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ فِيهَا) بَلَغَنَا فِي الْأَثَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَنَّ رَجُلًا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ فَوَرَّثَهُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ».
وَالْحَدِيثُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تَصَدَّقَ عَلَى أُمِّهِ بِحَدِيقَةٍ، ثُمَّ مَاتَتْ قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبِلَ مِنْك صَدَقَتَك، وَرَدَّ عَلَيْك حَدِيقَتَك».
وَفِي الْمَشْهُورِ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيِّ إلَّا بِخَمْسَةٍ، وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا: رَجُلًا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ فَوَرْثَ تِلْكَ الصَّدَقَةَ».
قَالَ: (رَجُلٌ قَالَ فِي صِحَّتِهِ: جَعَلْت غَلَّةَ دَارِي هَذِهِ صَدَقَة لِلْمَسَاكِينِ، ثُمَّ مَاتَ، أَوْ قَالَ: دَارِي هَذِهِ صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ، ثُمَّ مَاتَ، قَالَ: هِيَ مِيرَاثٌ عَنْهُ)؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ لَمْ تَتَّصِلْ بِهَذَا الْقَبْضِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ، سَوَاءٌ الْتَزَمَ الصَّدَقَةَ بِعَيْنِهَا، أَوْ بِغَلَّتِهَا، وَالْمَنْذُورُ لَا يَزُولُ عَنْ مِلْكِهِ قَبْلَ تَنْفِيذِ الصَّدَقَةِ فِيهِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ حَقًّا لِلَّهِ- تَعَالَى- وَلِهَذَا يُفْتَى بِهِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، وَمِثْلُهُ لَا يَمْنَعُ الْإِرْث، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ حَيًّا، وَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا: أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ مَا لَزِمَهُ مِنْ التَّصَدُّقِ فِي عَيْنِ مَالٍ بِالْتِزَامِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ- وَهُوَ الزَّكَاةُ- وَالْوَاجِبُ هُنَاكَ يَتَأَدَّى بِالْقِيمَةِ، كَمَا يَتَأَدَّى بِالْعَيْنِ، فَهَذَا مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي حَقِّ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ أَغِنَاؤُهُ، وَسَدُّ خَلَّتِهِ.
قَالَ: (فَإِنْ قَالَ جَمِيعُ مَا أَمْلِكُ صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ مِنْ الصَّامِتِ، وَأَمْوَالِ السَّوَائِمِ، وَأَمْوَالِ الزَّكَاةِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِالْعَقَارِ، وَالرَّقِيقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ- اسْتِحْسَانًا-)، وَفِي الْقِيَاسِ: عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَزَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: جَمِيعُ مَا أَمْلِكُ يَتَصَدَّقُ بِالْكُلِّ قِيَاسًا، وَاسْتِحْسَانًا.
وَإِنَّمَا الْقِيَاسُ، وَالِاسْتِحْسَانُ فِي قَوْلِهِ: مَالِي صَدَقَةٌ، أَوْ جَمِيعُ مَالِي صَدَقَةٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ اسْمَ الْمِلْكِ حَقِيقَةٌ لِكُلِّ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَاسْم الْمَالِ لِكُلِّ مَا يَتَمَوَّلُهُ الْإِنْسَانُ، وَمَالُ الزَّكَاةِ فِي ذَلِكَ، وَغَيْر مَالِ الزَّكَاةِ سَوَاءٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ يَسْتَوِي فِيهِ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ اللَّفْظ مَعْمُولٌ بِهِ فِي حَقِيقَتِهِ- مَا أَمْكَنَ- وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: إنَّمَا ذَكَرَ الْمَالَ وَالْمِلْكَ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّدَقَةِ، فَيَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ- تَعَالَى- أَوْجَبَ الْحَقَّ فِي الْمَالِ؛ وَلِذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ، فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ- بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ-؛ وَهَذَا لِأَنَّ الصَّدَقَةَ- شَرْعًا- إنَّمَا تَكُونُ عَنْ غِنًى.
قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى».
وَالْغَنِيّ- شَرْعًا- يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ، حَتَّى لَا يَكُونَ مَالِكُ الْعَقَارِ وَالرَّقِيقِ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ غَنِيًّا شَرْعًا؛ فَلِهَذَا الدَّلِيلِ تَرَكْنَا اعْتِبَارَ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ التَّصَدُّقَ بِمَالِ الزَّكَاةِ وَبِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ خِلَافُهُ وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي مَالِ الزَّكَاةِ، وَغَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ سَوَاءٌ، ثُمَّ يُمْسِكُ مِنْ ذَلِكَ قُوتَهُ، فَإِذَا أَصَابَ شَيْئًا بَعْدَ ذَلِكَ تَصَدَّقَ بِمَا أَمْسَكَ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ فِي هَذَا الْقَدْرِ مُقَدَّمَةٌ؛ إذْ لَوْ لَمْ يُمْسِكْ احْتَاجَ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ، ثُمَّ يَسْأَلَ النَّاسَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ مِقْدَار مَا يُمْسِكُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ عِيَالِهِ، وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ.
وَقِيلَ: إنْ كَانَ مُحْتَرِفًا: فَإِنَّمَا يُمْسِكُ قُوتَ يَوْمٍ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ غَلَّةٍ: أَمْسَكَ قُوتَ شَهْرٍ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ ضَيَاعٍ: أَمْسَكَ قُوتَ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ يَدَ الدِّهْقَانِ إلَى مَا يُنْفِقُ إنَّمَا تَتَّصِلُ سَنَةً فَسَنَةً، وَيَدُ صَاحِبِ الْغَلَّةِ شَهْرًا فَشَهْرًا، وَيَدُ الْعَامِلِ يَوْمًا فَيَوْمًا.
قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِلْمَسَاكِينِ هِبَةً، وَدَفَعَهَا إلَيْهِمْ لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا- اسْتِحْسَانًا- وَفِي الْقِيَاسِ: يَرْجِعُ)؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ، وَفِي أَسْبَابِ الْمِلْكِ: الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ سَوَاءٌ كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ-.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ قَصْدَهُ بِالْهِبَةِ مِنْ الْفَقِيرِ: الثَّوَابُ- دُونَ الْعِوَضِ-؛ إذْ لَوْ كَانَ قَصْدُهُ الْعِوَضَ لَاخْتَارَ لِلْهِبَةِ مَنْ يَكُونُ أَقْدَرَ عَلَى أَدَاء الْعِوَضِ، وَلَمَا اخْتَارَ الْفَقِيرَ مَعَ عَجْزِهِ عَنْ أَدَاء الْعِوَضِ، عَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ الثَّوَابُ، وَقَدْ نَالَ ذَلِكَ.
قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ أَعْطَى سَائِلًا أَوْ مُحْتَاجًا عَلَى وَجْهِ الْحَاجَةِ): فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ، وَإِنَّمَا قَصْدهُ بِفِعْلِهِ سَدُّ خَلَّة الْمُحْتَاج؛ وَذَلِكَ يُفْعَلُ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاة اللَّهِ- تَعَالَى- وَنُبْلِ ثَوَابِهِ وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِصِلَةِ رَحِمٍ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا.
قَالَ: (رَجُلٌ جَعَلَ فِي دَارِهِ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ النَّاسُ، ثُمَّ مَاتَ.
قَالَ: هُوَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمَيِّزْهُ عَنْ مِلْكِهِ، فَيَكُونُ هَذَا بِمَعْنَى صَدَقَةِ الْمُشَاعِ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِي الْمَسَاجِدِ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُهُ مَنْ شَاءَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَهَذَا مِلْكُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ جَانِبٍ مِنْهُ، فَلَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ الدُّخُولِ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ.
فَإِنْ كَانَ أَخْرَجَهُ مِنْ دَارِهِ، وَعَزَلَهُ وَجَعَلَهُ مَسْجِدًا، وَأَظْهَرَهُ لِلنَّاسِ، ثُمَّ مَاتَ: فَهُوَ مَسْجِدٌ لَا يُورَثُ،، وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ هَذَا الْفَصْلِ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ.
قَالَ: (وَإِنْ بَنَى عَلَى مَنْزِلِهِ مَسْجِدًا، وَسَكَنَ أَسْفَلَهُ، أَوْ جَعَلَهُ سِرْدَابًا، ثُمَّ مَاتَ: فَهُوَ مِيرَاثٌ).
وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ أَسْفَلَهُ مَسْجِدًا، وَفَوْقَهُ مَسْكَنًا؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا يُحْرَزُ أَصْلُهُ عَنْ مِلْكِ الْعِبَادِ، وَانْتِفَاعُهُمْ بِهِ عَلَى قِيَاسِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا اتَّخَذَهُ- حِين اسْتَثْنَى الْعُلْوَ أَوْ السُّفْلَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ-.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: إنْ جَعَلَ السُّفْلَ مَسْجِدًا: جَازَ، وَإِنْ جَعَلَ الْعُلْوَ مَسْجِدًا دُونَ السُّفْلِ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا لَهُ قَرَارٌ، وَتَأْبِيدٌ فِي السُّفْلِ دُونَ الْعُلْوِ.
وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ الْعُلْوُ مَسْجِدًا، وَالسُّفْلُ مُسْتَغَلًّا لِلْمَسْجِدِ فَهَذَا يَجُوزُ- اسْتِحْسَانًا-.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ جَائِزٌ، رَجَعَ إلَيْهِ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ، وَرَأَى ضِيقَ الْمَنَازِلِ بِأَهْلِهَا فَجَوَّزَ أَنْ يَجْعَلَ الْعُلْوَ مَسْجِدًا دُونَ السُّفْلِ وَالسُّفْلَ دُونَ الْعُلْوِ، وَهُوَ مُسْتَقِيمٌ عَلَى أَصْلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُوَسِّعُ فِي الْوَقْفِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ.
قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِمِسْكِينٍ دِرْهَمًا، وَسَمَّاهُ هِبَةً، وَنَوَاهُ مِنْ زَكَاتِهِ: أَجْزَأَهُ)؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي حَقِّ الْمِسْكَيْنِ لَفْظَة الْهِبَةِ كَلَفْظَةِ الصَّدَقَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِاللَّفْظِ فِي أَدَاء الزَّكَاةِ، إنَّمَا الْمُعْتَبَرُ: الْإِعْطَاءُ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ: كَانَ ذَلِكَ زَكَاةً لَهُ، فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِذَكَرِ الْهِبَةِ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.